أول الشعر اجتماع
أسبابه. وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة وفكر جلا صفحته البيان. فما
الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب. وسفير النفس إذا ناجت النفس. ولا خير في
لسان غير مبين ولا في سفير غير حكيم.
ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه،
والرأس عشه والقلب روضته. ولكان غناه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء.
وحسبك بكلام تنصرف إليه كل جارحة. وتضم عليه كل جانحة، ويجني من كل شيء حتى
لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل الثمرات فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه
فيه شفاء للناس.
وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في
زاوية من النفس فما زالت بها الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب وأخرجتها بعد
ذلك ألحانًا بغير إيقاع، ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرع كلها ثم تتعاون كأنما
تبحث بنور العقل عن شيء غاب عنها في سويداء الفؤاد وظلماته. لذلك كان أحسن الشعر
ما تتغنى به قبل عمله وهي طريقة تفنن فيها الشعراء حتى لكان الحطيئة يعوي في أثر
القوافي عواء الفصيل في أثر أمه.
وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته
يتغنى ذهب في التحرك مذاهب حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه فيتألف من
ذلك صوت إذا أجال حلقة فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل من يسمع فلا
يلبث أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه، كأنما أُخِذ حسَّه، لا فرق
في ذلك بين أعجمي وعربي. ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع. وإنما
الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفاء. إلا أن هذا يوحي إلى
القلب وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه والثاني يأخذ منه. والويل لكليهما إذا
لم يطرب هذا ولم يعجب ذاك.
والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى. ولو
كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب لا يعرفها
إلا من تعلمها ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق به ولا يقيمه
كل إنسان. وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية فكما يعرض للكلام من
استقامة التركيب والإعراب. وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه ولا تمدح الإعراب
بالكلام.
|
ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا
لأبيات يقولها الرجل في الحاجة تعرض له كقول دويد بن زيد- وهو من قديم الشعر
العربي- حين حضره الموت:
اليــوم يُبنْىَ لدُويَد بيتُه لو كان للدهر بِليً أبليتُهْ
أو كان قِرني واحداً كفيتُه
وإنما قُصِّدت القصائد على عهد عبد المطلب
أو هاشم بن عبد مناف. وهناك رفع امرؤ القيس ذلك اللواء وأضاء تلك السماء التي ما
طاولتها سماء. وهو لم يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما أتبعه فيه من جاء بعده.
فهو أول من استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض وشبه الخيل
بالعقبان والعصى وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة وقرب مآخذ الكلام وقيد
أوابده وأجاد الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر
بشعره.
وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه
مخبوء في فؤادك وأن عينيك تنظر في شغافة. فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء.
وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك. وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه حتى إذا جئته لم تجده
شيئًا. وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك. وإذا مثل كنانته رأيت من يرميه
صريعًا لا أثر فيه لقذيفة ولا مُدية ولكنها كلمة فُتحت عليها عينُه أو وَلَجت
إلى قلبه من أذنه فاستقرت في نفسه وكأنما استقر على جمر، وإذا مدح حسبت الدنيا
تجاوبه وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا وإذا وعظ استوقَفَت الناسَ كلمتُه
وزادتهم خشوعًا وإذا فخر اشتم من لحيته رائحة الملك فحسبت أنما حفت به الأملاك
والمواكب. وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه فإن الكلمة إذا
خرجت من القلب، وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.
|