إن التقدم التقني يظل سرًا عند مبدعيه في المركز، ولا ينقل إلى الأطراف
إلا امتدادًا للمركز وحضورًا فيه. واحتكار التقنية لا يقل أهمية عن احتكار
السوق، أو المواد الأولية، أو استغلال العمال، ويتم ذلك تحت شعار براءات
الاختراع وكأن الذهن البشري وقدراته الإبداعية ملك للأفراد. كما أن نقل التقنية
من المركز إلى الأطراف لا يحدث تقدمًا للأطراف بقدر ما يحقق ربحًا للمركز. فنقل
التقنية شيء وإبداع العلم شيء آخر. ومهما تم نقل التقنية إلى مجتمع متخلف أو نام
فلن يحدث أي تقدم فعلي في بنية هذه المجتمعات أو في ثقافتها التقليدية. وتصبح
التقنية أشبه بمفتاح سحري يفك كل المغاليق. وتضاف إلى قائمة الأسرار والخرافات
والمعجزات في الثقافات الشعبية. إن التقدم العلمي لا يحدث إلا ابتداء من التصور
العلمي للعالم، والربط بين العلة والمعلول، وتعقيل الطبيعة، وممارسة القدرة
الإنسانية للتأثير في مجراها.
إن
التحليل الكمي الخالص بمدى التفاوت في التقدم التقني بين المركز والأطراف
لَيَغْفل التحليل الكيفي، وأهمية التقنيات التقليدية القادرة على الصمود أمام
التقنيات الحديثة - كما وضح ذلك في حرب فيتنام وفي حرب أكتوبر. فما يهم هو
الإنسان القادر على استيعاب التقنية الحديثة أو إعادة توظيف وتطوير التقنية
التقليدية. كما أن البنية الاجتماعية والثقافية هي التي تحدد مدى التقدم التقني
مثل توافر الرؤية الاستراتيجية، ووجود الأطر المؤسسية، والقدرة في نظام التعليم،
والتغيرات التنظيمية والإدارية اللازمة، وتكامل الجهود التنموية.
إن
ثورة الاتصالات على الرغم مما بها من إيجابيات عملية وسهولة الاتصال بين أرجاء
المعمورة، إلا أنها تظل في أيدي الشركات الكبرى في المركز، وتقوم على احتكار
تكنولوجيا الاتصال، واحتكار المعلومات والاتجار فيها ، فالمعلومات سلعة وليست
خدمة، حق لمن يملكها وليست واجبًا عليه تجاه الآخرين. والحقيقة أن هذه الثورة
المعلوماتية تصيب المركز بالتقلص في معدل الذكاء الطبيعي نظرًا لكثرة الاعتماد
على الآلات والشاشات الضوئية شبه الكلي. فكل سؤال لدى الإنسان لديه إجابة على
الشاشة حتى يتعود الذهن على الكسل العقلي فيهبط مستوى ذكائه، كما أن كثرة الاعتماد
على تنظيم المعلومات تؤدي إلى الخلط بين المعلومات والعلم. المعلومات مختزنة،
ولكن العلم هو ما يمكن استنباطه من المعلومات عن طريق الذكاء الطبيعي. وفي الوقت
نفسه الذي تهدف فيه ثورة المعلومات إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الاتصال، فإنها
تنتهي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من العزلة. فالإنسان أمام الشاشة وظهره أو جنبه
للإنسان الآخر، فتغيب العلاقات وجهًا لوجه، ويتحول الكلام إلى صمت، واللغة إلى
إشارة، والتخاطب إلى شفرة فتزيد إلى درجة الوحدة، اتصال بالذهن وعزلة بالوجدان.
كما
أن المعلومات وقدرتها إنما هي مرتبطة بمقدور ما يغذيها الإنسان فالمخرجات (Output)
مشروطة بالمدخلات (Input). وبقدر ما تكون صحة المدخلات تكون صحة
المخرجات. ولا تستطيع المعلومات مهما كثرت وانتظمت أن تتنبأ بالإرادة البشرية
الحرة وقدرتها على التلقائية، وإصدار القرار الحر النابع من طبيعتها، وليس من
المعلومات المتاحة مثل الإحساس بالكرامة ضد المهانة. ولم تستطع كل معلومات أجهزة
المخابرات والتصنت الإسرائيلية والأمريكية التنبؤ بموعد حرب أكتوبر (1973)؛
لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار الكرامة العربية، وإرادة القتال لتحرير الأرض. وهي
موضوعات لا يمكن حسابها ولا تحويلها إلى جداول إحصائية..
|
الأربعاء، 8 فبراير 2017
البُعدُ التقنيُ والمعلوماتيُ للعولمةِ (لحسن حنفي)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية: ...
-
السؤال الأول صـ22ــ 1- المسند : له / المسند إليه : ملك السموات / المتعلقات : والأرض ، على كل شئ . المسند : يحيي ، يميت / المسند إليه ...
-
عناصر البلاغة : لفظ ومعنى . وفي كتب البلاغيين جدل شديد حول اللفظ والمعنى لمن المزية في الكلام؟ وباعتبار أن البلاغة تتمثل في النص...
-
اعلم أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محبوبًا عند أولي الألباب الذين هم أمناء الله على أهل أرضه. من القول في موضعه ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليق