الثلاثاء، 7 فبراير 2017

هذا هو عصرُنا (لزكي نجيب محمود)

     ليس العصر من العصر عددًا من السنين يكبر حينًا ليمتد بضعة قرون، ويصغر حينًا ليكفيه قرن واحد أو بعض قرن ، وإنما العصر المعين هو "فكرة" أساسية تسود الحياة وتصبح محورًا تدور حوله مسالك الناس ومناشطهم، حتى إذا ما تطورت تلك المسالك والمناشط- بحيث لم تعد "فكرة" العصر تكفيها ينبوعًا تنبثق منه المبادئ والقواعد ومواصفات الحياة العملية- أخذت "فكرة جديدة" في الظهور والانتشار والرسوخ حتى تصبح بدورها محورًا تدور حوله رحى الحياة، وعندئذ ينظر الناس فإذا هم في عصر جديد. فإذا حدث لفرد من الناس أو لفئة منهم أن تخلفت في رؤوسهم فكرة عصر مضى، ثم نشطوا على أساسها وسلكوا فالأرجح ألا تسعفهم فكرتهم القديمة تلك بما يتطلبه العصر القائم من صور الحياة فيصبحون- بالضرورة- كالغرباء في قومهم، حتى لتلفت إليهم الأنظار دهشة، وذلك في الأغلب الأعم. والأرجح- كما قلت- هو أن تكون الفكرة الجديدة أصلح لذلك الارتفاع الكيفي المنشود، من "الفكرة " التي ذهبت وذهب عصرها معها وها هي ذي قصة "أهل الكهف" للذين غيبهم نومهم نحو ثلاثة قرون عن تيار التغير فأصبحوا في قومهم غرباء، إلى الحد الذي أحرجهم ودفع بهم إلى العودة حيث كانوا إيثارًا للموت على حياة المنبوذ في أرضه.
     ولابد "للفكرة الجديدة" التي يتولد عنها عصر جديد، أن تبلغ من الغزارة حدًا من شأنه أن يفسح المجال لأفكار فرعية تنبثق منها ولفروع من تلك الفروع حتى تظل الحياة على تشعبها وتعقدها وكثرة الأفراد والجماعات التي تستظل بظلها. فإذا أخذنا الفترة التي امتدت بالغرب من عصوره الوسطى إلى اليوم - وهي نحو أربعة قرون - على أنها عصر جديد واحد أعقب ما يطلق عليه في تاريخهم اسم العصور الوسطى، كانت "الفكرة الجديدة" التي ميزته عن سابقه، هي أن يضيفوا إلى قراءة الكتب الموروثة عن أسلافهم وأقول: "أن يضيفوا ولا أقول: أن يحلوا محلها" قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لعلهم يخرجون بما يخرجون به من قوانين العلم الطبيعي التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لخدمته، وأعظم ما ينتج عن ذلك التسخير هو التحرر من قيود هي أقسى ما يتعرض له الإنسان من قيود، وأعني القيود التي تفرضها طبائع الأشياء على الإنسان قبل أن يعرف كيف يلجمها فيمسك بأعنتها ويسيرها كيفما أراد لها أن تسير. ولك أن تلقي بلمحة خاطفة إلى ما قد حققه الإنسان لنفسه من سيادة بمعرفته لقوانين الضوء والصوت والكهرباء والجاذبية..... إلخ
     وأعود بعد ذلك فأسأل ماذا كانت الفكرة الجديدة التي عملت على أن يكون القرن العشرون وحدة حضارية قائمة بذاتها؟ ولكي نجيب عن ذلك أريدك أن تقف معي لحظة عند مفترق القرنين: التاسع عشر والعشرين ، لندير أبصارنا في مجال العلوم متسائلين هل حدث فيها من جديد؟ وعندئذ سيجيئنا الجواب واضحًا: نعم. فإذا كان العصر بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما أعقب العصور الوسطى قد عرف بخروج العلماء من محابسهم ليجوبوا الأرض والبحر وأفلاك السماء، كاشفين عن كل مستور عطاءه ما أسعفتهم قدراتهم في هذا السبيل، ومع الكشف يقرءون صحائف الكون فيعلمون ظواهره، أقول: إنه إذا كان العصر الحديث بمعناه الذي امتدَّ أربعة قرون، قد كان مداره قراءة الطبيعة قراءة مباشرة بعد أن كان شغل العلماء الشاغل قبل ذلك هو أن ينكبوا داخل الجدران يقرءون صحف السابقين، فإن العصر بمعناه الأضيق الذي يقتصر على القرن العشرين وحده، لا يزال استمرارًا للاتجاه نفسه، إلا أن قراءته للطبيعة مختلفة الأساس عما كانت عليه.
     إن القرن العشرين استمرار للثلاثة القرون السابقة في الاتجاه بالجهد العلمي نحو قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، إلا أن القراءة اختلفت أبجديتها عما كانت، فبعد أن كان أساسها عند نيوتن وغيره من علماء الفترة السابقة هو أن أي شيء يبقى على حاله عاجزًا عن أن يغير شيئًا من وضعه حتى يأتيه عامل خارجي فيغيره، فالجسم المتحرك في اتجاه ما يظل متحركًا في هذا الاتجاه لا ينحرف عنه إلا إذا صدمه جسم آخر فيتغير، لا يتغير إلا بفعل عامل خارجي، هو الأساس الذي نقرأ عليه ظواهر الطبيعة في مسالكها. جاء هذا القرن العشرون ليغير أساس القراءة فيجعل التغير نتيجة اعتمال داخلي في الشيء المتغير بالإضافة إلى ما قد يكون هنالك من مؤثرات خارجية.
     وهذا هو بالفعل ما قد حدث في حالتنا هذه فقد ظهر من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأدب والفن ، ابتداء من رومانسية العشرات الأولى من القرن الماضي التــي تبــدت فـي كبار الشعراء والروائيين وفي فلسفة هيجل المثالية ثم في فلسفة شوبنهاور ونتشه التي تجعل أولوية الحياة في إرادتها قبل أن تكون في ظروفها. وكلها اتجاهات تحول محور الارتكاز في تطور الحياة من تأثير العوامل الخارجية إلى اعتمال الدوافع الداخلية وانعكس الاتجاه نفسه في أواسط القرن الماضي على مفكرين من أمثال ماركس وفرويد. وربما كان الشذوذ الوحيد هو نظرية "دارون" في التطور وكان ظهورها في أواسط القرن الماضي أيضًا فهي وإن سايرت عصرها في توجيه الاهتمام نحو فكرة التطور، إلا أنها جعلت تطور الكائنات الحية نتيجة عوامل البيئة الخارجية التي ترغم الكائن الحي على أن يتكيف لبيئته وإلا كان مصيره سرعة الفناء، (وهو اتجاه جاء عصرنا ليعلن النقيض- وهو أن حياة الكائن الحي من الداخل هي التي بفاعليتها تملي على البيئة شروطها وذلك بأن تغيرها لتجعلها أصلح لبقائها).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليق

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:

  بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:  ...