الأربعاء، 8 فبراير 2017

غايةُ البخلِ (للجاحظ)

    زعموا أن رجلًا قد بلغ من البخل غايته، وصار إمامًا، وأنه كان إذا صار في يده الدرهم، خاطبه وناجاه وفداه واستبطنه(1) وكان مما يقول له: "كم من أرض قد قطعت، وكم من كيس قد فارقت، وكم من خامل قد رفعت، ومن رفيع قد أخملت،  لك عندي ألاَّ تَعْرى ولا تضحى(2)" ثم يلقيه في كيسه ويقول: "اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه"، وإنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه.
     وإن أهله ألحوا عليه في شهوة(3) وأكثروا عليه في إنفاق درهم فدافعهم ما أمكن ذلك، ثم حمل درهماً فقط؛ فبينما هو ذاهب، إذ رأى حَّواء(4) قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه، فقال في نفسه: "أتلف شيئًا تبذل فيه النفس بأكلة أو شربة؟ والله ما هذا الأمر إلا عظة لي من الله"، فرجع إلى أهله ورد الدرهم إلى كيسه. فكان أهله منه في بلاء، وكانوا يتمنون موته، والخلاص منه بالموت، والحياة بدونه.  
     فلما مات وظنوا أنهم قد استرحوا منه، قدم ابنه فاستولى على ماله وداره، ثم قال: "ما كان أدم أبي فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام"، قالوا: "كان يتأدم بجبنة عنده". قال: "أرونيها"، فإذا فيها حز كالجدول من أثر مسح اللقمة، قال: "ما هذه الحفرة؟" قالوا: "كان لا يقطع الجبن وإنما كان يمسح على ظهره، فيحفر كما ترى". قال: "بهذا أهلكني وبهذا أقعدني هذا المقعد، لو علمت ذلك ما صليت عليه". قالوا: "فأنت كيف تريد أن تصنع؟"، قال: أضعها من بعيد فأشير عليها باللُقمة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليق

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:

  بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:  ...