الثلاثاء، 7 فبراير 2017

مفهومُ الأدبِ (لحسين المرصفي)

   اعلم أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محبوبًا عند أولي الألباب الذين هم أمناء الله على أهل أرضه. من القول في موضعه المناسب له، فإن لكل قول موضعًا يخصه بحيث يكون وضع غيره فيه خروجًا عن الأدب كما قال جرْوَل، الشاعر المشهور بالحطيئة: " فإن لكل مقام مقالًا".
     ومن الصمت وهو السكوت المقصود في موضعه فإن للصمت موضعًا يكون القول فيه خلاف الأدب، يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم". وفي لامية الطُّغُرّائي".
ويا خبيـرًا علـى الأسـرارِ مُطَّلِعًا        اصمت ففي الصمت منجاةُ من الزللِ
ولبعضهم: 
عجبـتُ لإزراء الغبـي بنفْسِــهِ        وصمتِ الذي قدْ كان بالعلم أَحْزَما
وللصمـتُ خيـرُ للغبـي وإنمـا        صحيفـة لـب المـرء أن يتكلما
     والكلام المنبه على مواضع الأقوال وعلى مواضع الصمت كثير. فمن الأحوال التي يكون التخلق بها أدبًا وضع الأفعال في مواضعها كما قال الله تعالى:       
(وَجَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ) فنبه سبحانه على أن المطلوب العفو المصلح دون المفسد، وقال النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولا خيـرَ في حلمٍ إذا لم تكُنْ له       بوادِرُ تحمـي صفَوه أن يُكَدّرا
ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكن له       لبيب إذا ما أورد الأمر أصدرا
    فقال له النبي لا يفضض الله فاك. وقال أبو الطيب؟
إذا أنـت أكرمــت الكـريم ملكتـه      وإن أنـت أكرمـت اللئيـم تمــردا
فوضع النَّدى في موضعِ السيفِ بالعُلى      مُضِرُ كوضعِ السيفِ في موضعِ النَّدا
    والناس في الأدب متفاوتون تفاوتًا عظيمًا. فمن قرأ العلوم وطاف في البلاد وعاشر طوائف الناس بعقل حاضر وتنبُّهٍ قائم وضبط جيد حتى عرف العوائد المختلفة والأهواء المتشعبة وميز الحسن منها وتخلق به، يكون بالضرورة أكثر أدبًا ممن قرأ وخالط ولم يطف وممن قرأ وطاف ولم يعاشر. وموافقة جميع الناس أمر غير ممكن فإن الدين والعقل يمنعان
 
من ارتكاب أمور لايسرّ بعض ذوي الأهواء غيرُها، وأولئك هم السفهاء الذين لا ألباب لهم، فهم بمنزلة قشور الأشياء التي لولا لبها لم تصلح إلا للنار أو ما أشبه، فيجب على الإنسان لأجل أن يكون محبوبًا عند الناس حاصلًا على أغراضه منهم أن يطلب الأخلاق المحمودة عند أولي النهى ليتحلى بها ويتخلى عن أضدادها، وأن يعرف أنه لا سبب لفساد الأقوال والأفعال - حتى تكون مشنوءة مبغوضة- إلا وضع الشيء في غير موضعه، فلا بد له من اجتهاد عظيم في طلب مواضع الأشياء ليأمن كثيرًا من الغوائل ومكدرات النفوس، ومن العيب الفاحش وهو نقص القادر على التمام كما قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المشهور بالمتنبي:
      ولم أرَ في عيوب الناسِ شيئًا          كنقص القادرين على التمامِ
وهاك مثال يرشدك إلى كيفية تعرف محاسن الأشياء ومواضعها: التكلم بصحيح اللغة أمر حسن واللحن غير حسن، كما يحكى أن هند ابنة أسماء بنت خارجة زوج الحجاج لحنت بين يديه يومًا فعاب ذاك منها وازدراه عليها فقالت ألم تسمع قول أخي مالك:
وحديـثٍ ألـذُّه هــو ممـا      يَنعتُ الناعتون يُـوزن وَزْنَـا
منطقُ صائبُ وتَلْحَنُ أحيــا      ناً وأحلى الحديثِ ما كان لحنا
    فقال الحجاج: وهذا خطأ ثانٍ فإن التحريف والخطأ عيب لا يحسنه أحد فهو لم يُرِد باللحن ما فهمت، وإنما أراد به معنى له آخر، وهو الرمز والإشارة إلى أمر لم يكن الكلام المنطوق به موضوعًا له.
   ألم تسمعى إلى قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ومن ذلك قول الشاعر:
ولقد لحنتُ لهم لكي ما يفهموا        واللحـنُ يفهمُـهُ أولو الألباب
     لكن لمّا اعتاد الناسُ الميلَ بالكلام عن وجهه العربي وصار فهمهم مربوطًا بالمنطق الملحون، وجب التكلم معهم بما جرت به عادتهم، يدخل ذلك في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "خاطبوا الناس بما يفهمون". وقوله: خاطبوا الناس على قدر عقولهم". وقد قيل:  خطأ مشهور ولا صواب مهجور. فعلمنا أن للتكلم بالعربية موضعًا يكون فيه حسنًا كقراءة الكتب ومحاورة الفطناء، حيث تكون في المباحث العلمية ومراجعات التعليم والتعلم. وموضعًا يكون فيه غير حسن وهي المخاطبات السائرة بين عموم الناس.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليق

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:

  بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:  ...