الأربعاء، 8 فبراير 2017

علمُ اللغةِ وعلمُ النفسِ (لمحمود فهمي حجازي)

     ترجع العلاقة بين علمي اللغة والنفس إلى طبيعة اللغة باعتبارها أحد مظاهر السلوك الإنساني. فإذا كان علم النفس يُعنى بدراسة السلوك الإنساني عمومًا فإن دراسة السلوك اللغوي تعد أحد جوانب الالتقاء بين علم اللغة وعلم النفس. لقد اهتمت المدرسة السلوكية بالسلوك اللغوي، وكان لها أثر كبير في البحث اللغوي الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين. ولكن ثمة فرقًا بين بحث اللغويين وبحث علماء النفس في قضايا اللغة.
     يهتم علم اللغة بالعبارات المنطوقة عند صدورها من الجهاز الصوتي للمتحدث وأثناء مرورها في الهواء وعند تلقي الجهاز السمعى للمخاطب لها. ومعنى هذا أن العمليات العقلية السابقة على صدور العبارات المنطوقة لا تدخل في إطار علم اللغة. والعلاقة بين الجهاز العصبي والجهاز النطقي عند المتحدث ليست من مجالات البحث اللغوي، فاللغويون يهتمون باللغة عند صدورها ولا يهتمون بالعمليات العقلية السابقة على ذلك، فهي موضوع من موضوعات البحث في علم النفس. وعندما تصل اللغة إلى الجهاز السمعي عند المتلقي ويقوم بنقلها إلى الجهاز العصبي تحدث عمليات عقلية أخرى يبحثها علم النفس أيضًا. أما تلك الظاهرة الصوتية التي تصدر عن المتحدث وتمضي في شكل موجات صوتية فتصل المتلقي فهي اللغة، وهي مجال البحث في علم اللغة.       
     وهناك فرق أساسي بين منهج اللغويين وعلماء النفس تجاه الظواهر اللغوية، فقد صرف علماء النفس جهدهم إلى اكتشاف قوانين عامة تفسر السلوك الإنساني، وركزوا جهدهم على الظواهر العامة مثل التعلم والإدراك والقدرات، ولكنهم لم يهتموا بمحتوى السلوك نفسه. ففي بحث قضية التعلم لم يهتموا بالمادة المنشودة التي تعلم، بل كان اهتمامهم مركزًا على عملية التعلم باعتبارها عملية عقلية. وفي السنوات الأخيرة حاول بعض الباحثين النظر إلى اللغة من الجانبين، فلم تعد الاستجابات اللغوية تدرس باعتبارها ضربًا من ضروب الاستجابات فحسب بل روعيت البنية اللغوية في ذلك أيضًا. ويتضح هذا من مقارنة الدراسات السابقة حول اللغة عند الطفل بالدراسات المعاصرة، فهي تبحث نفس الموضوع بطريقة اللغويين، أي بتحليل لغة الطفل من جوانبها الصوتية والنحوية والدلالية. وقد أفاد علماء النفس في السنوات الأخيرة من مناهج التحليل اللغوي في بحثهم للسلوك اللغوي، ولكن هذا لا يمنع من تحديد مجال اختصاص كل من الفريقين.
     فمجال الدراسة النفسية للغة هو كيفية تحويل المتحدث للاستجابة إلى رموز لغوية، وهذه عملية عقلية تتم عند الإنسان، فينتج عنها إصدار الجهاز الصوتي للغة. وعندما تصل اللغة إلى المتلقي ويقوم بفك هذه الرموز اللغوية في العقل إلى المعنى المراد تتم عملية عقلية أخرى تدخل في إطار علم النفس أيضًا. أما تلك الرموز الصوتية التي تنتقل من المتحدث عبر الهواء إلى المتلقي، فهي مجال البحث في علم اللغة. ويرى بعض اللغويين وعلماء النفس أن دراسة السلوك اللغوي إسهام مثمر لا لفهم اللغة فحسب بل لتكوين النظرية العامة لعلم النفس، وقد تطورت الدراسات اللغوية والنفسية في العشرين عاماً الماضية لتجعل من جوانب اللقاء بين علم النفس وعلم اللغة فرعًا مستقلًا بذاته هو علم اللغة النفسي أو علم النفس اللغوي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليق

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:

  بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:  ...