الاثنين، 15 مايو 2017

استخدام الحاسوب والإنترنت في تنمية قدرة طلاب المرحلة الثانوية العامة على فهم مقرر البلاغة في ضوء معايير الجودة


https://files.acrobat.com/a/preview/05c1c16d-3142-4037-9931-f23c43705fd0https://files.acrobat.com/a/preview/de14f575-98d7-4b61-bcc3-2e85ce8d863f

الحلقة 1 تعليم العربية لغير الناطقين بها من دليل العربية

دعاء


دعاء


دعاء


الصلاة على رسول الله


الفرق بين السنة والعام


الجمعة، 10 فبراير 2017

الاستماعُ الناقدُ والعولمةُ المعلوماتيةُ (لمحمد زين العابدين علي عميرة)


الاستماعُ الناقدُ والعولمةُ المعلوماتيةُ: (محمد زين العابدين علي حنفي عميرة ).
          العولمة في مظهرها الأساسي تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستثمار بثروات العالم من خلال مواده الأولية وأسواقه على حساب الشعوب الفقيرة، واحتواء المركز للأطراف التي حاولت الفكاك منه في الخمسينيات والستينيات إبان حركة التحرر الوطني، ثم تعثرت في بناء الدول الوطنية، فأراد المركز وراثتها من جديد تحت أحد أشكال الهيمنة، وهو العولمة، وكأنها لم تخرج من الاستعمار إلا كي تعود إليه من جديد، نادمة على مناهضته ومقاومته والاستقلال عنه.([1])
           والعولمة الاقتصادية تؤدي في النهاية إلى (التركيز والتهميش) التركيز في الدول الصناعية الكبرى، والفقر والتبعية والتهميش للأطراف. فالعولمة تتطلب الدول الرخوة، وليس الدول القوية الوطنية المستقلة.([2]) وعلى الرغم من أن إسرائيل جزء من النظام الاقتصادي الغربي إلا أنها تتمسك بإرادتها المستقلة، تستفيد من العولمة دون أن تكون ضحيتها.([3])
          والعولمة لها ثقافتها، وهي غير مكتوبة، قيمها مبثوثة عبر الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية، بل وعبر أساليب الحياة اليومية في الطعام والشراب والكساء والمواصلات والهاتف والتلفاز ونظم التعليم وفرص العلم، والمعرفة باللغات الأجنبية وطوابير الهجرة على أبواب السفارات الأجنبية للدول الصناعية أي ثقافة التدويل. فالإنتاج الثقافي وتوزيعه أصبح الآن بيد الشركات الكبرى (المركز)، تحولت الثقافة من المكتوب إلى المقروء، من الرواية والسرد إلى الوسائل السمعية والبصرية الحديثة. أما من حيث المضمون فثقافة العولمة هي ثقافة الكسب السريع والإيقاع السريع، والتسلية الوقتية، وإدخال السرور على النفس، وملذات الحس، وإثارة الغرائز، ثقافة (الجريء والجميلات) و (دالاس) وليس ثقافة (أوشين) التي يمكن أن تنال إعجاب الجمهور في العمق على الرغم من أمركة الثقافة في السطح، فالعولمة هي الاسم الحركي للأمركة.([4])
          إن تطور تقنيات التواصل في ظل العولمة وضع الأمم كلها على خط انطلاق واحد، يتيح لها فرصًا متكافئة في مضمار سباق الأفكار والمعلومات. ومعنى ذلك أننا في خضم هذه التواصلية المعلوماتية التي تفتحت لها أبواب السماء (فضائيات تنهمر عبر الأقمار الصناعية) وتفجرت بها الأرض عيونًا عبر الحواسب والشبكات نواجه طوفانًا مثل طوفان نوح، قد يقتلعنا من جذورنا، مع إرثنا الثقافي، ومشكلاتنا المزمنة، وسائر مألوفاتنا، وأعرافنا، وتقاليدنا، وعلاقاتنا، وأنظمتنا التربوية، وأنماط تفكيرنا وسلوكنا.
          فهل أعددنا الفُلك؛ نلوذ به إذا فار التنور وارتفعت أمواجه العاتية؟ نسلك فيه من كل زوجين اثنين يحفظان نسل مواريثنا العزيزة من الانقراض، حين تستوي السفينة على الجودي؟ أم نقول مثلما قال ولد نوح وكان في معزل -:  (قَالَ سَآوِيَ إِلَىَ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَن رّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)"سورة هود:  الآية 43".
          إن العولمة ليست قدرًا محتومًا لا يمكن الفكاك منه، ولا قانونًا تاريخيًا تخضع له كل الشعوب:  فالتاريخ ليس مجرد قانون موضوعي، إنما يتقابل هذا القانون مع حريات الأفراد وعمل الجماعات. العولمة جزء من جدل التاريخ، أحد أطراف الصراع في مقابل الخصوصية أو الإرادة الوطنية للشعوب والجماعات والأفراد.([5])
          إن مقاومة الهيمنة التي تحملها العولمة بكل أبعادها لا تتحقق من خلال الرفض الأيديولوجي لمفهومها، ولكن من خلال بناء الشروط التي تسمح بالتحكم بآلياتها وتقنياتها ووضع اليد على جزء من رأسمالها المادي والأدبي والعلمي. والمهم في هذا الصدد أن نفهم آليات الهيمنة الجديدة، وأن نسعى بكل إمكاناتنا إلى تغيير أو تعديل أثرها علينا. هذا يعني أن العولمة لا تدان بسبب الهيمنة التي تحملها، وإنما تنقد نقدًا سياسيًا علميًا من أجل تفكيك آليات هذه الهيمنة، وإبراز إمكانيات المقاومة التي تُتيحها، والميادين التي يمكن من خلالها للشعوب والمجتمعات الضعيفة المغلوبة على أمرها أن تتقدم فيها بالرغم عنها.
          ويفترض التعامل الناجح والمتوازن مع العولمة والتحديات التي تطلقها تبدلًا أساسيًا في توجهاتنا ومواقفنا النفسية التقليدية. وفي مقدمة ذلك التخلي عن المواقف الدفاعية التقليدية لصالح مواقف تقوم على الثقة بالنفس وبالمستقبل، وتبني مبادرات إيجابية وبناءة، تهدف إلى تعديل النظام العام الذي نعيش فيه، وتطوير التعاون الجماعي الذي يمكننا من تحقيق هذا التعديل. وهذا يستدعي أن نعترف بقصور أنظمتنا الاجتماعية والتربوية والثقافية لمواجهة هيمنة العولمة المؤمركة.([6])
والتخلص من هذا القصور من أجل احتلال المواقع العالمية، واختراق الهامشية، وكسر آليات التبعية بكل أنواعها، نحو المشاركة الفعلية والفعالة في الجهود الحضارية الإنسانية-، لا يتم إلا باهتمام كل المؤسسات الاجتماعية والتربوية والثقافية نحو صنع جيل واعٍ من أبناء العربية، تكون لديه القدرة والكفاءة على مواجهة هيمنة الأمركة بكل أبعادها، فينقد كل ما يلاحقه استماعًا وقراءة حفاظًا على هويته وعروبته، ويعمل دائمًا على أن يستبق معطيات العولمة التي لا تمحو إرادته ولا قوميته.





([1]) حسن حنفي وصادق جلال العظم، ما العولمة حوارات لقرن جديد، الطبعة الأولى، بيروت لبنان:  دار الفكر المعاصر، دمشق سوريا:  دار الفكر، 1420هـ 1999م، ص22.
([2]) جلال أمين، العولمة والدولة العرب والعولمة، ص 153 170، نقلًا عن حسن  حنفي وصادق جلال العظم، المرجع السابق، ص 24.
([3]) عزمي بشارة، إسرائيل والعولمة بعض جوانب جدلية العولمة إسرائيليًا العرب والعولمة، ص 281 293، نقلًا عن حسن حنفي وصادق جلال العظم، مرجع سابق، ص 24.
([4]) عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة العرب والعولمة، ص309 319، نقلًا عن حسن حنفي وصادق جلال العظم، مرجع سابق، ص 28.
([5]) حسن حنفي وصادق جلال العظم، مرجع سابق، ص28.
([6]) برهان غليون وسمير أمين، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، الطبعة الأولى، بيروت لبنان:  دار الفكر المعاصر، دمشق سوريا:  دار الفكر، 1420هـ 1999م، ص 

الأربعاء، 8 فبراير 2017

القديمُ والجديدُ (لطه حسين)

     نريد أن نفرغ من مسألة القديم والجديد. وهل من سبيل إلى أن نفرغ من مثل هذه المسألة؟ فقد رأينا في فصل مضى أنها مسألة تلازم الأمم الحية، وتلازمها لأنها حية. إذ كانت الحياة بطبيعتها تطورًا وكان التطور بطبيعته انتقالًا من حال إلى حال، وكان هذا الانتقال نفسه موجودًا للخلاف بين جديد طارئ وقديم زائل. فليس للجديد بد من أن يجاهد ليظهر ويستأثر بالحياة، وليس للقديم بد من أن يجاهد قبل أن يزول ويفقد سلطانه على النفوس. فما دامت هناك حياة فهناك قديم وجديد، وجهاد بين القديم والجديد، وأنصار للقديم وأنصار للجديد. وكما أننا مضطرون بحكم الحياة إلى أن نخضع للتطور. فنحن مضطرون بحكم التطور نفسه إلى أن نحتمل الخلاف بين الذين يبكون مغرب الشمس والذين يبتسمون لإشراقها. وكل ما نستطيع، أو كل ما نرجو، إنما هو ألا ننفق حياتنا في بكاء على الماضي أو ابتسام للمستقبل، فقد يصرف البكاء والابتسام عن أن ننتفع بتراث الماضي أو نحيا بآمال المستقبل.
     وليكن موضوع تفسيرنا للعلاقة بين القديم والجديد في هذا الفصل اللغة دون غيرها من موضوعات الخلاف. وأول شيء نحب أن نسائل عنه هو اللغة نفسها، لمن هي؟ ومن واضعها؟ ومن الذي ينتفع بها ويصرفها في أغراضه؟ فإن تكن اللغة ملكًا لقوم دون قوم ووقفًا على جماعة دون جماعة، فليس من شك في أن هؤلاء القوم وحدهم هم أصحاب الحق في أن يصرفوا هذه اللغة في أغراضهم ومذاهبهم، فأما غيرهم فليس له إلا أن يقلدهم في ذلك تقليدًا لا يتسع للخلاف ولا للتجديد. أترى إلى المصري حين يصطنع لغة من لغات الغرب ليس له أن يزيد فيها ولا أن ينقص منها ولا أن يغير أشكالها وأساليبها وإنما الحق عليه أن يذهب في ذلك كله مذهب أهلها، أفتظن أن حظ المصري من التصرف في اللغة العربية كحظه من التصرف في اللغة الفرنسية؟ ماذا نقول !! يخيل إلينا أننا أخطأنا التشبيه، ونحن مضطرون إلى أن نخطئ لأننا لا نجد إلى التشبيه سبيلًا. فنحن نعلم أن كثيرًا من الكتاب والشعراء الأجانب اصطنعوا الفرنسية لغة لنثرهم وشعرهم فأتقنوها كما أتقنها أهلها المجيدون، واستباحوا لأنفسهم فيها حقوقًا ليست أقل من حقوق أهلها، فأضافوا إليها ألفاظًا
اخترعوها وأساليب ابتدعوها، ولم ينكر الفرنسيون ذلك وإنما قبلوه وانتفعوا به واتخذوه لهم متاعًا شائعًا. أفتظن أن حق المصري في اللغة العربية أقل من حق أولئك الكتاب والشعراء في اللغة الفرنسية؟ نفهم أنه لا يبدل وحي السماء  ولكنَّا نعلم أن اللغة ليست من وحي السماء. وإنما هي ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني، لم يضعها فرد بعينه ولا جماعة بعينها، وإنما اشتركت في وضعها الأمة التي تتكلمها، دون أن تعلم متى وضعتها ودون أن تستطيع أن تعين لكل فرد من أفرادها أو جماعة من جماعاتها حظًا من ألفاظها وأساليبها. وإذا كان الأمر كذلك فلابد من أن تلاحظ في اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها. شيئين مختلفين، كلاهما يجعل تجدد اللغة أمرًا محتومًا الأول: أن لنفسية الأمة وحاجاتها، والظروف التي تحيط بها أثرًا قويًا في تكوين اللغة، وأن اللغة ليست في حقيقة الأمر إلا أثرًا لهذه النفسية والحاجات والظروف. فإذا أردت ألا تتجدد اللغة ولا تتطور فأبدأ بنفسية الأمم وحاجاتها وظروفها فَقِفْها عند حد معين لا تعدوه يتم لك ما تريد. الثاني: أن الأفراد يتكلمون اللغة ويصرفونها في أغراضهم وحاجاتهم. ومهما يكن سلطان الجماعة على الفرد ومهما يكن خضوع الفرد للجماعة وفناء شخصيته في مجموعها، فله حظ من الشخصية يمتاز به عن غيره من الناس. ولهذا الحظ من الشخصية الذي يختلف قوة وضعفًا باختلاف الأفراد وحظوظهم من الرقي العقلي أثره في اللغة. فليس لك أن تكلف الشاعر أو الكاتب المجيد أن يصف شعوره وعواطفه وحسه كما يصفها رجل من عامة الناس. وليس لك أن تكلف العالم أن يصف علمه بنفس اللغة التي يتكلمها عامة الناس. فإذا أردت أن تحول بين اللغة وبين التجدد فابدأ بشخصية الأفراد فامحها محوًا تامًا حتى يستوي الناس جميعًا في الحس والذوق والفهم والشعور. فإن تمت لك هذه المساواة وتم لك حرمان الجماعة من التطور فسيتم لك وقوف اللغة عند حد من الجمود لا سبيل إلى تجاوزه. ولكنك تعلم أن هذا غير ميسور، وأنك لن تستطيع أن تصل إلى بعضه إلا إذا استطعت أن تقف دورة الفلك واختلاف الليل والنهار. وإذاً فسلم للغة بحقها في التطور كما سلمت بذلك للجماعات،  وسلم للأفراد بحقهم في أن يصفوا لشيء كما يرونه ويعبروا عن الشعور كما يجدونه. وإذا سلمت لهم بذلك فأنت مكره على أن تؤمن بتجديد اللغة.




الشعرُ (لمصطفى صادق الرافعي)

     أول الشعر اجتماع أسبابه. وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة وفكر جلا صفحته البيان. فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب. وسفير النفس إذا ناجت النفس. ولا خير في لسان غير مبين ولا في سفير غير حكيم.
     ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عشه والقلب روضته. ولكان غناه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء. وحسبك بكلام تنصرف إليه كل جارحة. وتضم عليه كل جانحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل الثمرات فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.
     وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس فما زالت بها الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع، ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرع كلها ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن شيء غاب عنها في سويداء الفؤاد وظلماته. لذلك كان أحسن الشعر ما تتغنى به قبل عمله وهي طريقة تفنن فيها الشعراء حتى لكان الحطيئة يعوي في أثر القوافي عواء الفصيل في أثر أمه.
     وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك مذاهب حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه فيتألف من ذلك صوت إذا أجال حلقة فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل من يسمع فلا يلبث أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه، كأنما أُخِذ حسَّه، لا فرق في ذلك بين أعجمي وعربي. ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع. وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفاء. إلا أن هذا يوحي إلى القلب وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه والثاني يأخذ منه. والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا ولم يعجب ذاك.
     والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى. ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب لا يعرفها إلا من تعلمها ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق به ولا يقيمه كل إنسان. وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية فكما يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب. وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه ولا تمدح الإعراب بالكلام.



     ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا لأبيات يقولها الرجل في الحاجة تعرض له كقول دويد بن زيد- وهو من قديم الشعر العربي- حين حضره الموت:
اليــوم يُبنْىَ لدُويَد بيتُه           لو كان للدهر بِليً أبليتُهْ
أو كان قِرني واحداً كفيتُه
    وإنما قُصِّدت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف. وهناك رفع امرؤ القيس ذلك اللواء وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء. وهو لم يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما أتبعه فيه من جاء بعده. فهو أول من استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصى وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.
     وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك وأن عينيك تنظر في شغافة. فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء. وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك. وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه حتى إذا جئته لم تجده شيئًا. وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك. وإذا مثل كنانته رأيت من يرميه صريعًا لا أثر فيه لقذيفة ولا مُدية ولكنها كلمة فُتحت عليها عينُه أو وَلَجت إلى قلبه من أذنه فاستقرت في نفسه وكأنما استقر على جمر، وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا وإذا وعظ استوقَفَت الناسَ كلمتُه وزادتهم خشوعًا وإذا فخر اشتم من لحيته رائحة الملك فحسبت أنما حفت به الأملاك والمواكب. وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه فإن الكلمة إذا خرجت من القلب، وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان. 


غايةُ البخلِ (للجاحظ)

    زعموا أن رجلًا قد بلغ من البخل غايته، وصار إمامًا، وأنه كان إذا صار في يده الدرهم، خاطبه وناجاه وفداه واستبطنه(1) وكان مما يقول له: "كم من أرض قد قطعت، وكم من كيس قد فارقت، وكم من خامل قد رفعت، ومن رفيع قد أخملت،  لك عندي ألاَّ تَعْرى ولا تضحى(2)" ثم يلقيه في كيسه ويقول: "اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه"، وإنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه.
     وإن أهله ألحوا عليه في شهوة(3) وأكثروا عليه في إنفاق درهم فدافعهم ما أمكن ذلك، ثم حمل درهماً فقط؛ فبينما هو ذاهب، إذ رأى حَّواء(4) قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه، فقال في نفسه: "أتلف شيئًا تبذل فيه النفس بأكلة أو شربة؟ والله ما هذا الأمر إلا عظة لي من الله"، فرجع إلى أهله ورد الدرهم إلى كيسه. فكان أهله منه في بلاء، وكانوا يتمنون موته، والخلاص منه بالموت، والحياة بدونه.  
     فلما مات وظنوا أنهم قد استرحوا منه، قدم ابنه فاستولى على ماله وداره، ثم قال: "ما كان أدم أبي فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام"، قالوا: "كان يتأدم بجبنة عنده". قال: "أرونيها"، فإذا فيها حز كالجدول من أثر مسح اللقمة، قال: "ما هذه الحفرة؟" قالوا: "كان لا يقطع الجبن وإنما كان يمسح على ظهره، فيحفر كما ترى". قال: "بهذا أهلكني وبهذا أقعدني هذا المقعد، لو علمت ذلك ما صليت عليه". قالوا: "فأنت كيف تريد أن تصنع؟"، قال: أضعها من بعيد فأشير عليها باللُقمة"

علمُ اللغةِ وعلمُ النفسِ (لمحمود فهمي حجازي)

     ترجع العلاقة بين علمي اللغة والنفس إلى طبيعة اللغة باعتبارها أحد مظاهر السلوك الإنساني. فإذا كان علم النفس يُعنى بدراسة السلوك الإنساني عمومًا فإن دراسة السلوك اللغوي تعد أحد جوانب الالتقاء بين علم اللغة وعلم النفس. لقد اهتمت المدرسة السلوكية بالسلوك اللغوي، وكان لها أثر كبير في البحث اللغوي الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين. ولكن ثمة فرقًا بين بحث اللغويين وبحث علماء النفس في قضايا اللغة.
     يهتم علم اللغة بالعبارات المنطوقة عند صدورها من الجهاز الصوتي للمتحدث وأثناء مرورها في الهواء وعند تلقي الجهاز السمعى للمخاطب لها. ومعنى هذا أن العمليات العقلية السابقة على صدور العبارات المنطوقة لا تدخل في إطار علم اللغة. والعلاقة بين الجهاز العصبي والجهاز النطقي عند المتحدث ليست من مجالات البحث اللغوي، فاللغويون يهتمون باللغة عند صدورها ولا يهتمون بالعمليات العقلية السابقة على ذلك، فهي موضوع من موضوعات البحث في علم النفس. وعندما تصل اللغة إلى الجهاز السمعي عند المتلقي ويقوم بنقلها إلى الجهاز العصبي تحدث عمليات عقلية أخرى يبحثها علم النفس أيضًا. أما تلك الظاهرة الصوتية التي تصدر عن المتحدث وتمضي في شكل موجات صوتية فتصل المتلقي فهي اللغة، وهي مجال البحث في علم اللغة.       
     وهناك فرق أساسي بين منهج اللغويين وعلماء النفس تجاه الظواهر اللغوية، فقد صرف علماء النفس جهدهم إلى اكتشاف قوانين عامة تفسر السلوك الإنساني، وركزوا جهدهم على الظواهر العامة مثل التعلم والإدراك والقدرات، ولكنهم لم يهتموا بمحتوى السلوك نفسه. ففي بحث قضية التعلم لم يهتموا بالمادة المنشودة التي تعلم، بل كان اهتمامهم مركزًا على عملية التعلم باعتبارها عملية عقلية. وفي السنوات الأخيرة حاول بعض الباحثين النظر إلى اللغة من الجانبين، فلم تعد الاستجابات اللغوية تدرس باعتبارها ضربًا من ضروب الاستجابات فحسب بل روعيت البنية اللغوية في ذلك أيضًا. ويتضح هذا من مقارنة الدراسات السابقة حول اللغة عند الطفل بالدراسات المعاصرة، فهي تبحث نفس الموضوع بطريقة اللغويين، أي بتحليل لغة الطفل من جوانبها الصوتية والنحوية والدلالية. وقد أفاد علماء النفس في السنوات الأخيرة من مناهج التحليل اللغوي في بحثهم للسلوك اللغوي، ولكن هذا لا يمنع من تحديد مجال اختصاص كل من الفريقين.
     فمجال الدراسة النفسية للغة هو كيفية تحويل المتحدث للاستجابة إلى رموز لغوية، وهذه عملية عقلية تتم عند الإنسان، فينتج عنها إصدار الجهاز الصوتي للغة. وعندما تصل اللغة إلى المتلقي ويقوم بفك هذه الرموز اللغوية في العقل إلى المعنى المراد تتم عملية عقلية أخرى تدخل في إطار علم النفس أيضًا. أما تلك الرموز الصوتية التي تنتقل من المتحدث عبر الهواء إلى المتلقي، فهي مجال البحث في علم اللغة. ويرى بعض اللغويين وعلماء النفس أن دراسة السلوك اللغوي إسهام مثمر لا لفهم اللغة فحسب بل لتكوين النظرية العامة لعلم النفس، وقد تطورت الدراسات اللغوية والنفسية في العشرين عاماً الماضية لتجعل من جوانب اللقاء بين علم النفس وعلم اللغة فرعًا مستقلًا بذاته هو علم اللغة النفسي أو علم النفس اللغوي. 

البُعدُ التقنيُ والمعلوماتيُ للعولمةِ (لحسن حنفي)

      إن التقدم التقني يظل سرًا عند مبدعيه في المركز، ولا ينقل إلى الأطراف إلا امتدادًا للمركز وحضورًا فيه. واحتكار التقنية لا يقل أهمية عن احتكار السوق، أو المواد الأولية، أو استغلال العمال، ويتم ذلك تحت شعار براءات الاختراع وكأن الذهن البشري وقدراته الإبداعية ملك للأفراد. كما أن نقل التقنية من المركز إلى الأطراف لا يحدث تقدمًا للأطراف بقدر ما يحقق ربحًا للمركز. فنقل التقنية شيء وإبداع العلم شيء آخر. ومهما تم نقل التقنية إلى مجتمع متخلف أو نام فلن يحدث أي تقدم فعلي في بنية هذه المجتمعات أو في ثقافتها التقليدية. وتصبح التقنية أشبه بمفتاح سحري يفك كل المغاليق. وتضاف إلى قائمة الأسرار والخرافات والمعجزات في الثقافات الشعبية. إن التقدم العلمي لا يحدث إلا ابتداء من التصور العلمي للعالم، والربط بين العلة والمعلول، وتعقيل الطبيعة، وممارسة القدرة الإنسانية للتأثير في مجراها.
     إن التحليل الكمي الخالص بمدى التفاوت في التقدم التقني بين المركز والأطراف لَيَغْفل التحليل الكيفي، وأهمية التقنيات التقليدية القادرة على الصمود أمام التقنيات الحديثة - كما وضح ذلك في حرب فيتنام وفي حرب أكتوبر. فما يهم هو الإنسان القادر على استيعاب التقنية الحديثة أو إعادة توظيف وتطوير التقنية التقليدية. كما أن البنية الاجتماعية والثقافية هي التي تحدد مدى التقدم التقني مثل توافر الرؤية الاستراتيجية، ووجود الأطر المؤسسية، والقدرة في نظام التعليم، والتغيرات التنظيمية والإدارية اللازمة، وتكامل الجهود التنموية.
     إن ثورة الاتصالات على الرغم مما بها من إيجابيات عملية وسهولة الاتصال بين أرجاء المعمورة، إلا أنها تظل في أيدي الشركات الكبرى في المركز، وتقوم على احتكار تكنولوجيا الاتصال، واحتكار المعلومات والاتجار فيها ، فالمعلومات سلعة وليست خدمة، حق لمن يملكها وليست واجبًا عليه تجاه الآخرين. والحقيقة أن هذه الثورة المعلوماتية تصيب المركز بالتقلص في معدل الذكاء الطبيعي نظرًا لكثرة الاعتماد على الآلات والشاشات الضوئية شبه الكلي. فكل سؤال لدى الإنسان لديه إجابة على الشاشة حتى يتعود الذهن على الكسل العقلي فيهبط مستوى ذكائه، كما أن كثرة الاعتماد على تنظيم المعلومات تؤدي إلى الخلط بين المعلومات والعلم. المعلومات مختزنة، ولكن العلم هو ما يمكن استنباطه من المعلومات عن طريق الذكاء الطبيعي. وفي الوقت نفسه الذي تهدف فيه ثورة المعلومات إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الاتصال، فإنها تنتهي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من العزلة. فالإنسان أمام الشاشة وظهره أو جنبه للإنسان الآخر، فتغيب العلاقات وجهًا لوجه، ويتحول الكلام إلى صمت، واللغة إلى إشارة، والتخاطب إلى شفرة فتزيد إلى درجة الوحدة، اتصال بالذهن وعزلة بالوجدان.
          كما أن المعلومات وقدرتها إنما هي مرتبطة بمقدور ما يغذيها الإنسان فالمخرجات (Output) مشروطة بالمدخلات (Input). وبقدر ما تكون صحة المدخلات تكون صحة المخرجات. ولا تستطيع المعلومات مهما كثرت وانتظمت أن تتنبأ بالإرادة البشرية الحرة وقدرتها على التلقائية، وإصدار القرار الحر النابع من طبيعتها، وليس من المعلومات المتاحة مثل الإحساس بالكرامة ضد المهانة. ولم تستطع كل معلومات أجهزة المخابرات والتصنت الإسرائيلية والأمريكية التنبؤ بموعد حرب أكتوبر (1973)؛ لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار الكرامة العربية، وإرادة القتال لتحرير الأرض. وهي موضوعات لا يمكن حسابها ولا تحويلها إلى جداول إحصائية..



ثقافةُ العولمةِ (لبرهان غليون)

     السؤال هل نحن في اتجاه تكوين ثقافة عالمية واحدة تخضع للتمايز في داخلها بين ثقافة شعبية وثقافة طبقة سائدة نخبوية، أم في اتجاه صراع بين ثقافة نخبوية مسيطرة مرتبطة بسيرورة العولمة، وثقافات وطنية محتفظة بديناميكيتها، ومستمرة في مقاومة ثقافة العولمة؟
     نحن في اعتقادي في صدد عمليتين متوازيتين معًا؛ تتبع الأولى خط نشوء ثقافة عالمية تشكل الموارد المشتركة للنخبة الدولية التي سوف تدمجها الشبكات والقطاعات للعولمة، وتنشر فيها القيم والسلوكيات وأنماط التفكير ذاتها، وتفصلها- بالتالي- عن الجسم الرئيسي للمجتمعات التي تنتمي إليها. أما العملية الثانية فتتبع خط التمايز والصراع المتزايد بين الثقافة المعولمة الجديدة، ثقافة العولمة، والثقافات المحلية والإقليمية التي سوف تفقد طابعها الوطني أو القومي التقليدي، وتخضع لعاملين متناقضين: الانفتاح في اتجاه الدائرة الحضارية المشتركة التي تضم العديد من الدول القومية، مثل ما يبدو من العودة للمرجعية العربية والإسلامية، والانغلاق في اتجاه الربط مع التقاليد المناطقية والأقومية والعشائرية والمذهبية في الوقت نفسه. وتتوقف خطوط التقاطع والتمايز بين هذه المستويات الثقافية المتعددة بصورة رئيسية على الشكل الذي سوف يأخذه تقسيم العمل الدولي في إطار العولمة، وفي إثره تكوين خطوط التضامن والتحالف والتفاعل بين الجماعات.
     وسوف تتخذ المعركة بين الثقافتين: المعولمة، وتلك الناشئة عن إعادة تنظيم الموارد الثقافية المحلية على أسس إقليمية، اتجاهين أساسيين: الأول؛ هو تأكيد استقلالية الثقافات الإقليمية عن الثقافة المعولمة، والثقافات الكبرى المسيطرة في سياقها. وهو ما يمثله الرفض الذي سوف يستمر ويزداد لمبدأ الهيمنة الثقافية والعالمية الكاذبة والكسموبوليتية(1). والاتجاه الثاني: هو إثبات أصالتها أو قدرتها على إبداع حلول مختلفة وناجعة للمجتمعات المرتبطة بها، وبالتالي على رفض الحلول الاقتدائية والمستنسخة عن الثقافة الكبرى.
       يعني هذا أن هناك تحديين رئيسين يواجهان الثقافات المسيطر عليها اليوم الأول: هو تحدي الاستسلام والتسليم الذي يؤدي إلى الانحلال والتفكك والالتحاق من دون شخصية ولا برنامج ولا مشاركة إيجابية بالثقافات المسيطرة. والثاني: هو البقاء في مستوى الرفض والاحتجاج، وبالتالي التحول حتمًا إلى ثقافة مضادة لثقافة العولمة، ولكنها من الطينة نفسها وعلى أسس واحدة وإن كانت مقلوبة. ونحن في العالم العربي لا نزال- على مستوى الحركة العامة الغالبة على الأقل، والظاهرة أيضًا - نعيش في مرحلة هذا الرد الاحتجاجي على صعود ثقافة الهيمنة والعولمة التي تهمشنا أو تهدد بتهميشنا التاريخي، وتهميش ثقافتنا. وهذا يفسر أن المرجعية الرئيسية التي تتخذها إعادة تشكيلنا لثقافتنا العربية الإسلامية- كثقافة جديدة لعصر العولمة- هي مرجعية إسلامية، نعيد من خلالها تأويل الإسلام تأويلًا هيمنيًا في اتجاه مماثل تمامًا في الجوهر لنماذج الهيمنة الشمولية التي تفرزها الثقافة التي نحتج عليها.






الثلاثاء، 7 فبراير 2017

هذا هو عصرُنا (لزكي نجيب محمود)

     ليس العصر من العصر عددًا من السنين يكبر حينًا ليمتد بضعة قرون، ويصغر حينًا ليكفيه قرن واحد أو بعض قرن ، وإنما العصر المعين هو "فكرة" أساسية تسود الحياة وتصبح محورًا تدور حوله مسالك الناس ومناشطهم، حتى إذا ما تطورت تلك المسالك والمناشط- بحيث لم تعد "فكرة" العصر تكفيها ينبوعًا تنبثق منه المبادئ والقواعد ومواصفات الحياة العملية- أخذت "فكرة جديدة" في الظهور والانتشار والرسوخ حتى تصبح بدورها محورًا تدور حوله رحى الحياة، وعندئذ ينظر الناس فإذا هم في عصر جديد. فإذا حدث لفرد من الناس أو لفئة منهم أن تخلفت في رؤوسهم فكرة عصر مضى، ثم نشطوا على أساسها وسلكوا فالأرجح ألا تسعفهم فكرتهم القديمة تلك بما يتطلبه العصر القائم من صور الحياة فيصبحون- بالضرورة- كالغرباء في قومهم، حتى لتلفت إليهم الأنظار دهشة، وذلك في الأغلب الأعم. والأرجح- كما قلت- هو أن تكون الفكرة الجديدة أصلح لذلك الارتفاع الكيفي المنشود، من "الفكرة " التي ذهبت وذهب عصرها معها وها هي ذي قصة "أهل الكهف" للذين غيبهم نومهم نحو ثلاثة قرون عن تيار التغير فأصبحوا في قومهم غرباء، إلى الحد الذي أحرجهم ودفع بهم إلى العودة حيث كانوا إيثارًا للموت على حياة المنبوذ في أرضه.
     ولابد "للفكرة الجديدة" التي يتولد عنها عصر جديد، أن تبلغ من الغزارة حدًا من شأنه أن يفسح المجال لأفكار فرعية تنبثق منها ولفروع من تلك الفروع حتى تظل الحياة على تشعبها وتعقدها وكثرة الأفراد والجماعات التي تستظل بظلها. فإذا أخذنا الفترة التي امتدت بالغرب من عصوره الوسطى إلى اليوم - وهي نحو أربعة قرون - على أنها عصر جديد واحد أعقب ما يطلق عليه في تاريخهم اسم العصور الوسطى، كانت "الفكرة الجديدة" التي ميزته عن سابقه، هي أن يضيفوا إلى قراءة الكتب الموروثة عن أسلافهم وأقول: "أن يضيفوا ولا أقول: أن يحلوا محلها" قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لعلهم يخرجون بما يخرجون به من قوانين العلم الطبيعي التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على تسخير الطبيعة لخدمته، وأعظم ما ينتج عن ذلك التسخير هو التحرر من قيود هي أقسى ما يتعرض له الإنسان من قيود، وأعني القيود التي تفرضها طبائع الأشياء على الإنسان قبل أن يعرف كيف يلجمها فيمسك بأعنتها ويسيرها كيفما أراد لها أن تسير. ولك أن تلقي بلمحة خاطفة إلى ما قد حققه الإنسان لنفسه من سيادة بمعرفته لقوانين الضوء والصوت والكهرباء والجاذبية..... إلخ
     وأعود بعد ذلك فأسأل ماذا كانت الفكرة الجديدة التي عملت على أن يكون القرن العشرون وحدة حضارية قائمة بذاتها؟ ولكي نجيب عن ذلك أريدك أن تقف معي لحظة عند مفترق القرنين: التاسع عشر والعشرين ، لندير أبصارنا في مجال العلوم متسائلين هل حدث فيها من جديد؟ وعندئذ سيجيئنا الجواب واضحًا: نعم. فإذا كان العصر بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما أعقب العصور الوسطى قد عرف بخروج العلماء من محابسهم ليجوبوا الأرض والبحر وأفلاك السماء، كاشفين عن كل مستور عطاءه ما أسعفتهم قدراتهم في هذا السبيل، ومع الكشف يقرءون صحائف الكون فيعلمون ظواهره، أقول: إنه إذا كان العصر الحديث بمعناه الذي امتدَّ أربعة قرون، قد كان مداره قراءة الطبيعة قراءة مباشرة بعد أن كان شغل العلماء الشاغل قبل ذلك هو أن ينكبوا داخل الجدران يقرءون صحف السابقين، فإن العصر بمعناه الأضيق الذي يقتصر على القرن العشرين وحده، لا يزال استمرارًا للاتجاه نفسه، إلا أن قراءته للطبيعة مختلفة الأساس عما كانت عليه.
     إن القرن العشرين استمرار للثلاثة القرون السابقة في الاتجاه بالجهد العلمي نحو قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، إلا أن القراءة اختلفت أبجديتها عما كانت، فبعد أن كان أساسها عند نيوتن وغيره من علماء الفترة السابقة هو أن أي شيء يبقى على حاله عاجزًا عن أن يغير شيئًا من وضعه حتى يأتيه عامل خارجي فيغيره، فالجسم المتحرك في اتجاه ما يظل متحركًا في هذا الاتجاه لا ينحرف عنه إلا إذا صدمه جسم آخر فيتغير، لا يتغير إلا بفعل عامل خارجي، هو الأساس الذي نقرأ عليه ظواهر الطبيعة في مسالكها. جاء هذا القرن العشرون ليغير أساس القراءة فيجعل التغير نتيجة اعتمال داخلي في الشيء المتغير بالإضافة إلى ما قد يكون هنالك من مؤثرات خارجية.
     وهذا هو بالفعل ما قد حدث في حالتنا هذه فقد ظهر من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأدب والفن ، ابتداء من رومانسية العشرات الأولى من القرن الماضي التــي تبــدت فـي كبار الشعراء والروائيين وفي فلسفة هيجل المثالية ثم في فلسفة شوبنهاور ونتشه التي تجعل أولوية الحياة في إرادتها قبل أن تكون في ظروفها. وكلها اتجاهات تحول محور الارتكاز في تطور الحياة من تأثير العوامل الخارجية إلى اعتمال الدوافع الداخلية وانعكس الاتجاه نفسه في أواسط القرن الماضي على مفكرين من أمثال ماركس وفرويد. وربما كان الشذوذ الوحيد هو نظرية "دارون" في التطور وكان ظهورها في أواسط القرن الماضي أيضًا فهي وإن سايرت عصرها في توجيه الاهتمام نحو فكرة التطور، إلا أنها جعلت تطور الكائنات الحية نتيجة عوامل البيئة الخارجية التي ترغم الكائن الحي على أن يتكيف لبيئته وإلا كان مصيره سرعة الفناء، (وهو اتجاه جاء عصرنا ليعلن النقيض- وهو أن حياة الكائن الحي من الداخل هي التي بفاعليتها تملي على البيئة شروطها وذلك بأن تغيرها لتجعلها أصلح لبقائها).


مفهومُ الأدبِ (لحسين المرصفي)

   اعلم أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محبوبًا عند أولي الألباب الذين هم أمناء الله على أهل أرضه. من القول في موضعه المناسب له، فإن لكل قول موضعًا يخصه بحيث يكون وضع غيره فيه خروجًا عن الأدب كما قال جرْوَل، الشاعر المشهور بالحطيئة: " فإن لكل مقام مقالًا".
     ومن الصمت وهو السكوت المقصود في موضعه فإن للصمت موضعًا يكون القول فيه خلاف الأدب، يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم". وفي لامية الطُّغُرّائي".
ويا خبيـرًا علـى الأسـرارِ مُطَّلِعًا        اصمت ففي الصمت منجاةُ من الزللِ
ولبعضهم: 
عجبـتُ لإزراء الغبـي بنفْسِــهِ        وصمتِ الذي قدْ كان بالعلم أَحْزَما
وللصمـتُ خيـرُ للغبـي وإنمـا        صحيفـة لـب المـرء أن يتكلما
     والكلام المنبه على مواضع الأقوال وعلى مواضع الصمت كثير. فمن الأحوال التي يكون التخلق بها أدبًا وضع الأفعال في مواضعها كما قال الله تعالى:       
(وَجَزَآءُ سَيئَةٍ سَيئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ) فنبه سبحانه على أن المطلوب العفو المصلح دون المفسد، وقال النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولا خيـرَ في حلمٍ إذا لم تكُنْ له       بوادِرُ تحمـي صفَوه أن يُكَدّرا
ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكن له       لبيب إذا ما أورد الأمر أصدرا
    فقال له النبي لا يفضض الله فاك. وقال أبو الطيب؟
إذا أنـت أكرمــت الكـريم ملكتـه      وإن أنـت أكرمـت اللئيـم تمــردا
فوضع النَّدى في موضعِ السيفِ بالعُلى      مُضِرُ كوضعِ السيفِ في موضعِ النَّدا
    والناس في الأدب متفاوتون تفاوتًا عظيمًا. فمن قرأ العلوم وطاف في البلاد وعاشر طوائف الناس بعقل حاضر وتنبُّهٍ قائم وضبط جيد حتى عرف العوائد المختلفة والأهواء المتشعبة وميز الحسن منها وتخلق به، يكون بالضرورة أكثر أدبًا ممن قرأ وخالط ولم يطف وممن قرأ وطاف ولم يعاشر. وموافقة جميع الناس أمر غير ممكن فإن الدين والعقل يمنعان
 
من ارتكاب أمور لايسرّ بعض ذوي الأهواء غيرُها، وأولئك هم السفهاء الذين لا ألباب لهم، فهم بمنزلة قشور الأشياء التي لولا لبها لم تصلح إلا للنار أو ما أشبه، فيجب على الإنسان لأجل أن يكون محبوبًا عند الناس حاصلًا على أغراضه منهم أن يطلب الأخلاق المحمودة عند أولي النهى ليتحلى بها ويتخلى عن أضدادها، وأن يعرف أنه لا سبب لفساد الأقوال والأفعال - حتى تكون مشنوءة مبغوضة- إلا وضع الشيء في غير موضعه، فلا بد له من اجتهاد عظيم في طلب مواضع الأشياء ليأمن كثيرًا من الغوائل ومكدرات النفوس، ومن العيب الفاحش وهو نقص القادر على التمام كما قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المشهور بالمتنبي:
      ولم أرَ في عيوب الناسِ شيئًا          كنقص القادرين على التمامِ
وهاك مثال يرشدك إلى كيفية تعرف محاسن الأشياء ومواضعها: التكلم بصحيح اللغة أمر حسن واللحن غير حسن، كما يحكى أن هند ابنة أسماء بنت خارجة زوج الحجاج لحنت بين يديه يومًا فعاب ذاك منها وازدراه عليها فقالت ألم تسمع قول أخي مالك:
وحديـثٍ ألـذُّه هــو ممـا      يَنعتُ الناعتون يُـوزن وَزْنَـا
منطقُ صائبُ وتَلْحَنُ أحيــا      ناً وأحلى الحديثِ ما كان لحنا
    فقال الحجاج: وهذا خطأ ثانٍ فإن التحريف والخطأ عيب لا يحسنه أحد فهو لم يُرِد باللحن ما فهمت، وإنما أراد به معنى له آخر، وهو الرمز والإشارة إلى أمر لم يكن الكلام المنطوق به موضوعًا له.
   ألم تسمعى إلى قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ومن ذلك قول الشاعر:
ولقد لحنتُ لهم لكي ما يفهموا        واللحـنُ يفهمُـهُ أولو الألباب
     لكن لمّا اعتاد الناسُ الميلَ بالكلام عن وجهه العربي وصار فهمهم مربوطًا بالمنطق الملحون، وجب التكلم معهم بما جرت به عادتهم، يدخل ذلك في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "خاطبوا الناس بما يفهمون". وقوله: خاطبوا الناس على قدر عقولهم". وقد قيل:  خطأ مشهور ولا صواب مهجور. فعلمنا أن للتكلم بالعربية موضعًا يكون فيه حسنًا كقراءة الكتب ومحاورة الفطناء، حيث تكون في المباحث العلمية ومراجعات التعليم والتعلم. وموضعًا يكون فيه غير حسن وهي المخاطبات السائرة بين عموم الناس.





السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:

  بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:  ...