الاستماعُ الناقدُ والعولمةُ
المعلوماتيةُ: (محمد زين العابدين علي حنفي عميرة ).
العولمة
في مظهرها الأساسي تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستثمار بثروات العالم من خلال
مواده الأولية وأسواقه على حساب الشعوب الفقيرة، واحتواء المركز للأطراف التي
حاولت الفكاك منه في الخمسينيات والستينيات إبان حركة التحرر الوطني، ثم تعثرت في
بناء الدول الوطنية، فأراد المركز وراثتها من جديد تحت أحد أشكال الهيمنة، وهو
العولمة، وكأنها لم تخرج من الاستعمار إلا كي تعود إليه من جديد، نادمة على
مناهضته ومقاومته والاستقلال عنه.([1])
والعولمة الاقتصادية تؤدي في النهاية إلى
(التركيز والتهميش) التركيز في الدول الصناعية الكبرى، والفقر والتبعية والتهميش
للأطراف. فالعولمة تتطلب الدول الرخوة، وليس الدول القوية الوطنية المستقلة.([2])
وعلى الرغم من أن إسرائيل جزء من النظام الاقتصادي الغربي إلا أنها تتمسك بإرادتها
المستقلة، تستفيد من العولمة دون أن تكون ضحيتها.([3])
والعولمة
لها ثقافتها، وهي غير مكتوبة، قيمها مبثوثة عبر الأقمار الصناعية والقنوات
الفضائية، بل وعبر أساليب الحياة اليومية في الطعام والشراب والكساء والمواصلات
والهاتف والتلفاز ونظم التعليم وفرص العلم، والمعرفة باللغات الأجنبية وطوابير
الهجرة على أبواب السفارات الأجنبية للدول الصناعية أي ثقافة التدويل. فالإنتاج
الثقافي وتوزيعه أصبح الآن بيد الشركات الكبرى (المركز)، تحولت الثقافة من المكتوب
إلى المقروء، من الرواية والسرد إلى الوسائل السمعية والبصرية الحديثة. أما من حيث
المضمون فثقافة العولمة هي ثقافة الكسب السريع والإيقاع السريع، والتسلية الوقتية،
وإدخال السرور على النفس، وملذات الحس، وإثارة الغرائز، ثقافة (الجريء والجميلات)
و (دالاس) وليس ثقافة (أوشين) التي يمكن أن تنال إعجاب الجمهور في العمق على الرغم
من أمركة الثقافة في السطح، فالعولمة هي الاسم الحركي للأمركة.([4])
إن
تطور تقنيات التواصل في ظل العولمة وضع الأمم كلها على خط انطلاق واحد، يتيح لها
فرصًا متكافئة في مضمار سباق الأفكار والمعلومات. ومعنى ذلك أننا – في خضم هذه التواصلية المعلوماتية التي تفتحت لها أبواب السماء
(فضائيات تنهمر عبر الأقمار الصناعية) وتفجرت بها الأرض عيونًا عبر الحواسب
والشبكات – نواجه طوفانًا مثل طوفان نوح، قد يقتلعنا من جذورنا، مع إرثنا
الثقافي، ومشكلاتنا المزمنة، وسائر مألوفاتنا، وأعرافنا، وتقاليدنا، وعلاقاتنا،
وأنظمتنا التربوية، وأنماط تفكيرنا وسلوكنا.
فهل
أعددنا الفُلك؛ نلوذ به إذا فار التنور وارتفعت أمواجه العاتية؟ نسلك فيه من كل
زوجين اثنين يحفظان نسل مواريثنا العزيزة من الانقراض، حين تستوي السفينة على
الجودي؟ أم نقول مثلما قال ولد نوح – وكان في معزل -: (قَالَ سَآوِيَ إِلَىَ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ
الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَن رّحِمَ
وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)"سورة هود: الآية 43".
إن
العولمة ليست قدرًا محتومًا لا يمكن الفكاك منه، ولا قانونًا تاريخيًا تخضع له كل
الشعوب: فالتاريخ ليس مجرد قانون موضوعي،
إنما يتقابل هذا القانون مع حريات الأفراد وعمل الجماعات. العولمة جزء من جدل
التاريخ، أحد أطراف الصراع في مقابل الخصوصية أو الإرادة الوطنية للشعوب والجماعات
والأفراد.([5])
إن
مقاومة الهيمنة التي تحملها العولمة بكل أبعادها لا تتحقق من خلال الرفض
الأيديولوجي لمفهومها، ولكن من خلال بناء الشروط التي تسمح بالتحكم بآلياتها
وتقنياتها ووضع اليد على جزء من رأسمالها المادي والأدبي والعلمي. والمهم في هذا
الصدد أن نفهم آليات الهيمنة الجديدة، وأن نسعى بكل إمكاناتنا إلى تغيير أو تعديل
أثرها علينا. هذا يعني أن العولمة لا تدان بسبب الهيمنة التي تحملها، وإنما تنقد
نقدًا سياسيًا علميًا من أجل تفكيك آليات هذه الهيمنة، وإبراز إمكانيات المقاومة
التي تُتيحها، والميادين التي يمكن من خلالها للشعوب والمجتمعات الضعيفة المغلوبة
على أمرها أن تتقدم فيها بالرغم عنها.
ويفترض
التعامل الناجح والمتوازن مع العولمة والتحديات التي تطلقها تبدلًا أساسيًا في
توجهاتنا ومواقفنا النفسية التقليدية. وفي مقدمة ذلك التخلي عن المواقف الدفاعية
التقليدية لصالح مواقف تقوم على الثقة بالنفس وبالمستقبل، وتبني مبادرات إيجابية
وبناءة، تهدف إلى تعديل النظام العام الذي نعيش فيه، وتطوير التعاون الجماعي الذي
يمكننا من تحقيق هذا التعديل. وهذا يستدعي أن نعترف بقصور أنظمتنا الاجتماعية
والتربوية والثقافية لمواجهة هيمنة العولمة المؤمركة.([6])
والتخلص من هذا القصور – من أجل احتلال المواقع العالمية، واختراق الهامشية، وكسر آليات
التبعية بكل أنواعها، نحو المشاركة الفعلية والفعالة في الجهود الحضارية
الإنسانية-، لا يتم إلا باهتمام كل المؤسسات الاجتماعية والتربوية والثقافية نحو
صنع جيل واعٍ من أبناء العربية، تكون لديه القدرة والكفاءة على مواجهة هيمنة
الأمركة بكل أبعادها، فينقد كل ما يلاحقه استماعًا وقراءة حفاظًا على هويته
وعروبته، ويعمل دائمًا على أن يستبق معطيات العولمة التي لا تمحو إرادته ولا
قوميته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليق