نريد أن نفرغ من مسألة القديم والجديد. وهل من سبيل إلى أن نفرغ من مثل
هذه المسألة؟ فقد رأينا في فصل مضى أنها مسألة تلازم الأمم الحية، وتلازمها
لأنها حية. إذ كانت الحياة بطبيعتها تطورًا وكان التطور بطبيعته انتقالًا من حال
إلى حال، وكان هذا الانتقال نفسه موجودًا للخلاف بين جديد طارئ وقديم زائل. فليس
للجديد بد من أن يجاهد ليظهر ويستأثر بالحياة، وليس للقديم بد من أن يجاهد قبل
أن يزول ويفقد سلطانه على النفوس. فما دامت هناك حياة فهناك قديم وجديد، وجهاد
بين القديم والجديد، وأنصار للقديم وأنصار للجديد. وكما أننا مضطرون بحكم الحياة
إلى أن نخضع للتطور. فنحن مضطرون بحكم التطور نفسه إلى أن نحتمل الخلاف بين الذين
يبكون مغرب الشمس والذين يبتسمون لإشراقها. وكل ما نستطيع، أو كل ما نرجو، إنما
هو ألا ننفق حياتنا في بكاء على الماضي أو ابتسام للمستقبل، فقد يصرف البكاء
والابتسام عن أن ننتفع بتراث الماضي أو نحيا بآمال المستقبل.
وليكن موضوع تفسيرنا للعلاقة بين القديم والجديد
في هذا الفصل اللغة دون غيرها من موضوعات الخلاف. وأول شيء نحب أن نسائل عنه هو
اللغة نفسها، لمن هي؟ ومن واضعها؟ ومن الذي ينتفع بها ويصرفها في أغراضه؟ فإن
تكن اللغة ملكًا لقوم دون قوم ووقفًا على جماعة دون جماعة، فليس من شك في أن
هؤلاء القوم وحدهم هم أصحاب الحق في أن يصرفوا هذه اللغة في أغراضهم ومذاهبهم،
فأما غيرهم فليس له إلا أن يقلدهم في ذلك تقليدًا لا يتسع للخلاف ولا للتجديد.
أترى إلى المصري حين يصطنع لغة من لغات الغرب ليس له أن يزيد فيها ولا أن ينقص
منها ولا أن يغير أشكالها وأساليبها وإنما الحق عليه أن يذهب في ذلك كله مذهب
أهلها، أفتظن أن حظ المصري من التصرف في اللغة العربية كحظه من التصرف في اللغة
الفرنسية؟ ماذا نقول !! يخيل إلينا أننا أخطأنا التشبيه، ونحن مضطرون إلى أن
نخطئ لأننا لا نجد إلى التشبيه سبيلًا. فنحن نعلم أن كثيرًا من الكتاب والشعراء
الأجانب اصطنعوا الفرنسية لغة لنثرهم وشعرهم فأتقنوها كما أتقنها أهلها
المجيدون، واستباحوا لأنفسهم فيها حقوقًا ليست أقل من حقوق أهلها، فأضافوا إليها
ألفاظًا
|
اخترعوها وأساليب ابتدعوها، ولم
ينكر الفرنسيون ذلك وإنما قبلوه وانتفعوا به واتخذوه لهم متاعًا شائعًا. أفتظن
أن حق المصري في اللغة العربية أقل من حق أولئك الكتاب والشعراء في اللغة
الفرنسية؟ نفهم أنه لا يبدل وحي السماء
ولكنَّا نعلم أن اللغة ليست من وحي السماء. وإنما هي ظاهرة من ظواهر
الاجتماع الإنساني، لم يضعها فرد بعينه ولا جماعة بعينها، وإنما اشتركت في وضعها
الأمة التي تتكلمها، دون أن تعلم متى وضعتها ودون أن تستطيع أن تعين لكل فرد من
أفرادها أو جماعة من جماعاتها حظًا من ألفاظها وأساليبها. وإذا كان الأمر كذلك
فلابد من أن تلاحظ في اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها. شيئين مختلفين، كلاهما
يجعل تجدد اللغة أمرًا محتومًا الأول: أن لنفسية الأمة وحاجاتها، والظروف
التي تحيط بها أثرًا قويًا في تكوين اللغة، وأن اللغة ليست في حقيقة الأمر إلا
أثرًا لهذه النفسية والحاجات والظروف. فإذا أردت ألا تتجدد اللغة ولا تتطور
فأبدأ بنفسية الأمم وحاجاتها وظروفها فَقِفْها عند حد معين لا تعدوه يتم لك ما تريد.
الثاني: أن الأفراد يتكلمون اللغة ويصرفونها في أغراضهم وحاجاتهم. ومهما
يكن سلطان الجماعة على الفرد ومهما يكن خضوع الفرد للجماعة وفناء شخصيته في
مجموعها، فله حظ من الشخصية يمتاز به عن غيره من الناس. ولهذا الحظ من الشخصية
الذي يختلف قوة وضعفًا باختلاف الأفراد وحظوظهم من الرقي العقلي أثره في اللغة.
فليس لك أن تكلف الشاعر أو الكاتب المجيد أن يصف شعوره وعواطفه وحسه كما يصفها
رجل من عامة الناس. وليس لك أن تكلف العالم أن يصف علمه بنفس اللغة التي يتكلمها
عامة الناس. فإذا أردت أن تحول بين اللغة وبين التجدد فابدأ بشخصية الأفراد
فامحها محوًا تامًا حتى يستوي الناس جميعًا في الحس والذوق والفهم والشعور. فإن
تمت لك هذه المساواة وتم لك حرمان الجماعة من التطور فسيتم لك وقوف اللغة عند حد
من الجمود لا سبيل إلى تجاوزه. ولكنك تعلم أن هذا غير ميسور، وأنك لن تستطيع أن
تصل إلى بعضه إلا إذا استطعت أن تقف دورة الفلك واختلاف الليل والنهار. وإذاً
فسلم للغة بحقها في التطور كما سلمت بذلك للجماعات، وسلم للأفراد بحقهم في أن يصفوا لشيء كما
يرونه ويعبروا عن الشعور كما يجدونه. وإذا سلمت لهم بذلك فأنت مكره على أن تؤمن
بتجديد اللغة.
|
الأربعاء، 8 فبراير 2017
القديمُ والجديدُ (لطه حسين)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية: ...
-
السؤال الأول صـ22ــ 1- المسند : له / المسند إليه : ملك السموات / المتعلقات : والأرض ، على كل شئ . المسند : يحيي ، يميت / المسند إليه ...
-
عناصر البلاغة : لفظ ومعنى . وفي كتب البلاغيين جدل شديد حول اللفظ والمعنى لمن المزية في الكلام؟ وباعتبار أن البلاغة تتمثل في النص...
-
اعلم أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محبوبًا عند أولي الألباب الذين هم أمناء الله على أهل أرضه. من القول في موضعه ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليق