الثلاثاء، 7 فبراير 2017

البُعدُ الاقتصاديُ والسياسيُ للعولمةٍ (لحسن حنفي)

     العولمة في مظهرها الأساسي تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستثمار بثروات العالم -مواده الأولية وأسواقه على حساب الشعوب الفقيرة- واحتواء المركز للأطراف التي حاولت الفكاك منه في الخمسينيات والستينيات إبان حركة التحرر الوطني، ثم تعثرت في بناء الدول الوطنية، فأراد المركز وراثتها من جديد تحت أحد أشكال الهيمنة، وهي العولمة، وكأنها لم تخرج من الاستعمار إلا كي تعود إليه من جديد، نادمة على مناهضته ومقاومته والاستقلال عنه.
     والعولمة هي إحدى مراحل النمو الرأسمالي في الغرب في هيئة الشركات المتعددة الجنسيات التي تتجاوز حدود الدول القومية التي نشأت مع الرأسمالية ولعبت دورًا رئيسيًا في نموها وانتشارها وخوض الحرب في سبيلها، وجاءت مثل الرخاء والرفاهية والاستهلاك تشرع لأيديولوجية السوق وقوانين العرض والطلب طبقًا لقوانين (دعه يعمل، دعه يمر) حتى يعم الرخاء الجميع وتفيض الوفرة وتغمر كل شيء وينتهي عصر التطور اللامتكافئ، وتدخل جميع الدول في اقتصاد السوق بمواده الأولية وأسواقه وعمالته، وتعود إليه فوائد أرباحه وتنمية مدخراته. والحقيقة أن ذلك كله يتم لصاحب المركز على حساب الأطراف، فالعولمة الاقتصادية تؤدي في النهاية إلى (التركيز والتهميش) التركيز في الدول الصناعية السبع الكبرى، والفقر والتبعية والتهميش للأطراف.
     والعولمة في بُعدها السياسي أحد أشكال الهيمنة السياسية بعد انهيار أحد المعسكرين، وانفراد المعسكر الآخر بالسيطرة على العالم. فباسم العولمة تُمْحَى الإرادة الوطنية المستقلة للدول والشعوب. فالعولمة شكل من أشكال الهيمنة، والدولة الوطنية المستقلة نقيضان، وجود أحدهما ينفي وجود الآخر. تتطلب العولمة فتح الحدود، ورفع الدولة يدها عن الحواجز الجمركية، وحرية انتقال الأموال عبر البنوك، وحرية تغيير أسعار الصرف طبقًا لأسعار السوق، ورفع الدعم عن المواد الغذائية، والخضوع لقوانين السوق، والعرض والطلب، وإنهاء القطاع العام والإسراع في خصخصته. وعلى هذا ليست وظيفة الدولة حماية الاقتصاد الوطني، بل تشجيع الاستثمار الأجنبي، وتهيئة الخدمات اللازمة. تتطلب العولمة الدولة الرَّخوة، وليست الدولة القوية الوطنية المستقلة. وعلى الرغم من أن إسرائيل جزء من النظام الاقتصادي الغربي إلا أنها تتمسك بإرادتها المستقلة، تستفيد من العولمة دون أن تكون ضحيتها.
     والاستقرار السياسي هو الضمان للعولمة حتى لا تأتي بقرار فوقى أو بانقلاب ثم يطيح بها انقلاب آخر. لذلك تتطلب قدرًا كبيرًا من الحرية والديمقراطية والتعددية الحزبية. فالحرية الاقتصادية تتطلب حرية سياسية، والواقع الفعلي غير ذلك. إذ تؤيد الدول الكبرى في المركز أبشع أنواع نظم الحكم الاستبدادي والتسلطي في الأطراف، الحكم العسكري والملكي والقبائلي العشائري، وتحقق غاية العولمة الاقتصادية دون متطلباتها السياسية، بل وتشجع بعض أنظمة الحكم المنتسبة إلى الإسلام مادامت تؤمن بالحرية الاقتصادية وموالية للغرب مثل أفغانستان وشبه الجزيرة العربية وتعادي نظمًا إسلامية أخرى معادية للهيمنة الغربية مثل إيران والسودان. تؤيد النظم الغربية الإسلام المحافظ ؛ لأنه يؤمن باقتصاد السوق، وتعارض الإسلام التقدمي، لأنه يؤمن بالاستقلال الوطني وسيطرة الدولة على قطاعات الإنتاج الكبرى حماية لمحدودي الدخل، كما هو الحال في الملايو، وتؤيد اقتصاد السوق المناهض للحركة الإسلامية كما هو الحال في تركيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب تعليق

السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:

  بسم الله الرحمن الرحيم السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته. لمن يريد الإطلاع على أبحاثي العلمية المنشورة يمكنه من خلال الروابط التالية:  ...